لم تعد الجودة في مؤسسات التعليم العالي مجرد ملف إداري يُراجع كل بضع سنوات، أو تقارير دورية تُرفع إلى جهات الاعتماد. بل أصبحت اليوم أحد أهم ركائز تطوير العملية التعليمية، وأداة استراتيجية لتحقيق التنافسية والريادة على المستويين المحلي والدولي.
لكن السؤال الجوهري يظل مطروحًا: كيف تتحول الجودة من إجراءات ورقية إلى ممارسة أكاديمية حقيقية يلمس أثرها الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء؟
الجودة الحقيقية تبدأ من قلب القاعات الدراسية. فعندما يُدرك عضو هيئة التدريس أن تطبيق معايير الجودة يساعده على تطوير طرق التدريس وقياس نواتج التعلم بشكل أوضح، يتحول إلى شريك أساسي في عملية التطوير، لا مجرد منفذ لإجراءات إدارية.
ويأتي هنا الدور المحوري لأعضاء هيئة التدريس، فهم العمود الفقري للعملية التعليمية، والمعايير العالمية للجودة تعتمد بشكل أساسي على كفاءة الممارسات الأكاديمية: تصميم المقررات، التفاعل مع الطلاب، استخدام التكنولوجيا التعليمية، وإنتاج المعرفة من خلال البحث العلمي.
ولا يمكن إغفال القيادة الجامعية كعامل حاسم في نجاح أي مشروع جودة. فحين يضع رئيس الجامعة والعمداء الجودة على رأس أولوياتهم، ويترجمون ذلك إلى خطط واضحة، وموارد مخصصة، وحوافز مشجعة، تتحول الجودة من التزام شكلي إلى ثقافة مؤسسية راسخة.
التكنولوجيا أيضًا أصبحت جسرًا للتطبيق الفعلي. فالتحول الرقمي يمنح الجامعات فرصة غير مسبوقة لتبسيط إجراءات الجودة. الأنظمة الإلكترونية لإدارة الجودة والتعليم الذكي تجعل من السهل جمع البيانات، متابعة الأداء، وإصدار تقارير دقيقة تدعم صناع القرار. هنا لا تصبح الجودة مجرد “ملفات” بل ممارسة يومية تنعكس على جميع جوانب التعليم.
وفي النهاية، يبقى الطالب هو قلب المعادلة. فالجودة لا تُقاس بعدد النماذج أو حجم التقارير، بل بمدى رضا الطالب عن تعليمه وقدرته على المنافسة في سوق العمل. وكلما كانت سياسات الجامعة وأنشطتها موجهة نحو الطالب، تحققت الجودة بشكلها الحقيقي.
الجودة في التعليم العالي ليست أوراقًا تُملأ أو شهادات تُعلق على الجدران، بل ثقافة متكاملة تبدأ من عضو هيئة التدريس وتنتهي عند الطالب. وعندما تتبنى الجامعات هذا المفهوم، يتحول الاعتماد الأكاديمي من هدف بعيد إلى نتيجة طبيعية لجهد جماعي يُبنى على وعي ومشاركة حقيقية.