أصبح مفهوم جودة التعليم اليوم أحد أبرز المؤشرات التي تقاس بها قوة الدول وقدرتها التنافسية عالميًا. فالجامعة لم تعد مجرد مكان للحصول على شهادة جامعية، وإنما أصبحت منظومة متكاملة تُعِدّ طلابها لمواجهة سوق عمل شديد التغير والتطور، قائم على المعرفة والابتكار. وفي هذا السياق، قطعت الجامعات المصرية خطوات واسعة نحو الارتقاء بجودة العملية التعليمية، مستفيدة من الجهود الوطنية التي تقودها الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد.
الاعتماد الأكاديمي يمثل الخطوة الأولى في هذه الرحلة؛ فهو شهادة تثبت أن المؤسسة التعليمية تلتزم بمعايير معتمدة على المستوى المحلي والدولي، بدءًا من كفاءة أعضاء هيئة التدريس وجودة المناهج الدراسية، مرورًا بالبنية التحتية والتكنولوجية، وصولًا إلى وجود آليات مستمرة للتقويم والتطوير. لكن القيمة الحقيقية للاعتماد لا تكمن في كونه مجرد “ختم رسمي”، بل في كونه التزامًا مستدامًا يضمن أن الطالب يتلقى تعليمًا يلبي معايير التميز العالمي.
خلال السنوات الأخيرة، شهدت مصر تطورًا ملحوظًا في توجه جامعاتها نحو هذا المسار؛ إذ تزايد عدد البرامج الأكاديمية المعتمدة، خاصة في كليات الهندسة والطب والعلوم، كما بدأت بعض الجامعات في إطلاق منصات رقمية لتسهيل متابعة ملفات الجودة، إلى جانب إبرام شراكات مع جهات اعتماد دولية، وهو ما يعكس إدراكًا متناميًا لأهمية المواءمة مع معايير التعليم العالمية.
لكن رحلة الجودة لا تتوقف عند الحصول على الاعتماد. فالمرحلة التالية، والأكثر تحديًا، هي التحول إلى “التميز المؤسسي”. هذه المرحلة تتطلب ما هو أبعد من استيفاء معايير محددة؛ إذ تقوم على خلق ثقافة مؤسسية متكاملة تجعل الجودة جزءًا من هوية الجامعة اليومية. يتجلى ذلك في توفير بيئة تعليمية تحفّز الابتكار والبحث العلمي، وإتاحة فرص تدريبية وميدانية حقيقية للطلاب، وتعزيز مشاركتهم في تطوير المناهج وصناعة القرار، بما يجعلهم شركاء حقيقيين في عملية التطوير.
إن الحديث عن جودة التعليم لا يقتصر على الملفات الإدارية أو الإجراءات الروتينية، بل يمتد ليعكس رؤية أوسع لدور الجامعة في المجتمع. فالجامعات التي تنجح في تحويل الجودة إلى ثقافة راسخة، هي ذاتها التي تستطيع أن تحقق التميز المؤسسي، وأن تحجز لنفسها مكانًا في التصنيفات العالمية، ليس لمجرد أنها حصلت على اعتماد، بل لأنها أصبحت بالفعل مؤسسات قادرة على صناعة المستقبل.